untitled

أرشفة التداعي

١٦ آذار ٢٠٢٥

تدوينة حول خمس منشورات مستقلة متوافرة في مكتبة عمّان الصُّغرى، تحاول جميعها حفظ ما تبقّى، والإشارة إلى طرق ممكنة للعيش.

لم يعد هناك نظام جامع وكبير. أمّا ما بقي لدينا، فملفّات متناثرة، مواقع يطمح قرّاؤها إلى شيء أبعد، مجلات مطبوعة على عجل ببعض الأخطاء التي تُترك عمدًا بوصفها نوعًا من الاعتراف بالتداعي. ها نحنُ ذا، نعيش بين الأطلال، وسط أشياء تتشبّث بالبقاء، طاردةً فكرةَ الزوال بعيدًا.

لا تأتي هذه الكتب الخمسة لتكرّس "حقيقة" واحدة، لا لتشرح شيئًا أو تقنع أحدًا. بل لتجمع ما وقع تحت يديها، لتتريّث، وتفتح بابًا لما لا يجد عادةً مكانًا له. لا يُقدِّم أيٌّ منها حلًّا، لكنها تشترك بذائقة متشابهة: هي الحاجة لإعادة التفكير: كيف نحافظ على ما وقعت يدانا عليه، كيف نشاركه، كيف نتخيّله، وكيف نُقيم وسط حالة التداعي العارمة، ونحافظ على إصرارنا في ما تبقّى؟

انقراض الإنترنت – Institute of Network Cultures

untitled

يبدأ الكتاب بجملة صادمة: "ما لا يُمكن قوله، سيُبكى عليه". لقد مات الإنترنت حسب أطروحة الكتاب، لا تقنيًّا، بل سياسيًّا واجتماعيًا. الإنترنت الذي وُعِدنا به: الحر، المليء بالفضول والتجريب، دُفن بهدوء تحت الإعلانات والخوارزميات وكلمات السر.لكنّ الكتاب لا يقف راثيًا انقراض الإنترنت، بل يسأل: ماذا بعد؟ فإذا كان إصلاحه مستحيلًا، هل بوسعنا بناء شيء آخر على أنقاضه؟ يضمّ الكتاب حديثًا هادئًا تتخلّله صور منتقاة بعناية عن الشبكات الصغيرة والخوادم المشتركة والمجتمعات التي لا تحظى باتصال دائم.بنبرة حادّة أحيانًا، لكنها ليست يائسة، يبدو الكتاب كما لو أنّه دليل نجاة لمن بدأوا فعلًا تجريب طرق أخرى. لا شيء نوستالجي هنا، بل محاولة للعيش مع الفقد، دون أن نذعن له بالكامل.

مجلة چل موضعي

untitled

لا تبرّر مجلّة چل نفسها، بل تفرضها بروحٍ من السخرية، محوّلةً تلك "الفجاجة" إلى فضيلة. بوسع المرء أن يتصفّحها، ليجد اللغة والصورة متداخلتين كما لو أنّهما في حوار بلا ترجمة، ثمّ لا يدري ما الذي سيصادفه: أهو شعاع النور أم أحمد عدويّة متنكّرًا في زيّ مارادونا؟مجلّة لا يصعب أن يشعر واحدُنا بأنها حيّة، لا كما كثير من المجلّات؛ فهي لا تتظاهر بالموضوعية، الغضب فيها واضح كما الحنين، وكذا السخرية التي تمرّ نسيمًا أو صفعةً؛ فتدرك سريعًا أن من أنتجها لا يتحدث عن الثقافة، بل ينطلق من داخلها.في عالم النشر المؤسساتي، مجلّة چل تمثّل النقيض، لا تغفل عن التناقض، ولا تتنكّر للفوضى. أو… ربّما ليس ثمّة من كلمات تغني عن إمساكها وتقليبها، مرّة فاثنتين، وهكذا إلى أن ينغلق الغلاف على ذاته.

إصدار – من إعداد مستقل ٤٠

untitled

قد تحيل كلمة "إصدار" إلى كثير من المعاني: عدد، إطلاق، منشور، مرسوم… إلخ. لكنّها هنا، تبدو مثل شيء ظلَّ محبوسًا ثم فُتح فجأة وخرج إلى العالم."إصدار" ليست مجرّد مجلة. بل فعل، بالمعنى السياسيّ للكلمة، حيث المساحة تستحيل حقيقةً إلى حوار؛ إنّها تعاون بين كُتّاب ومصممين وفنانين يتأمل كلّ فرد منهم الشكل والذاكرة والنشر خارج قنواته المألوفة.ثمّة ما هو طارئ في هذا العدد، دون أن يفضي ذلك إلى التسرّع؛ فهنا تظهر العناية على وجهها الحقّ: في التصميم، في الخطوط، واختيار الكلمات.إذا كان انقراض الإنترنت يرسم نهايةً ما للعالم، فإن العدد الاوّل من "إصدار" يعيش في العالم الذي يُبنى بصبر وسط الركام.

Shoebox – العددان الثاني والثالث

untitled

في Shoebox ما يحيل إلى الوداعة. كل عدد من هذين العددين يحمل في طيّاته أرشفة ناعمة للحظات وصور وكلمات كان لها أن تضيع. إذا كان لعددي Shoebox أن تثبت شيئًا بعينه، فليس أدلُّ على ذلك من محاولتها صنع مكانٍ يتّسع للكلمة، للصورة، وللاثنين معًا، مكان مكتمل الأركان، على بساطة القول.تجيء هذه المجلّة في عالمٍ قتلته الرغبة بالسرعة، لتواجه Shoebox ذلك بالتمهّل، لا بل بالحتفاء به بوصفه البديل العمليّ لعالم انفلت عقاله. تُعلّمنا هذه المجلّة أن المقاومة لا تتمحور حول غلبة الصوت، بل أحيانًا، هي ليست إلا توثيقًا لما هو خافت: الفرح البسيط، الحزن العابر، والنظرات الجانبية، وبهذا، مثلها مثل "إصدار"، تجترح فعلًا سياسيًّا على طريقتها الخاصّة.

يوتوبيات: وثائق الفن المعاصر – تحرير ريتشارد نوبل

untitled

تُستعمل كلمة "يوتوبيا" كثيرًا، وغالبًا بلا كبير تفكير في معانيها. لكنّها تُستعاد بثقلها في هذا الكتاب: لا بوصفها حلمًا مستحيلًا، بل أداةَ ضغطٍ فاعلة.لا يقدّم الكتاب رؤية جاهزة للمستقبل، بل يجمع نصوصًا تُعامل اليوتوبيا باعتبارها توتّرًا ضروريًّا، وسيلةً للشَّكِّ، لا الهروب، كما لو أنّها اختبار لما هو كائن، وما يمكن أن يكون. وهو في هذا، يحرّر اليوتوبيا من مثاليتها، مؤكّدًا على كونها ممارسة ورفضًا ووخزًا للوضع الرّاهن.
لا تنتمي هذه المنشورات الخمسة إلى سياق واحد، وغالبًا لم تُكتَب أو تُصمّم وأحدها يفكّر بالآخر. لكن، حين نضعها جنبًا إلى جنب، ثمّة خيط خفي يُولد، إنّها الرغبة المشتركة في احتضان ما لا يُحتضن، في إيجاد صيغ جديدة وإيقاعات وطرق للكلام، خاصةً حين تخوننا اللغة.لا يعد أحد هذه الكتب بالثبات، ولا بالوضوح أو الراحة. لكنها تفعل ما هو أصعب: تستمر في الملاحظة، واستبقاء ما هو على وشك الزّوال، والسّعي إلى خلافه. وهي في ذلك، تمنحنا إحساسًا بالتّشارك، بأنّنا لسنا وحيدين؛ إذ ثمّة طرقٌ للعيش في هذا العالم، لا تقبله على ما هو عليه.